كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ فِعْلُهَا بِالتَّيَمُّمِ مَعَ خَوْفِ فَوَاتِ وَقْتِهَا الَّذِي هُوَ مَأْمُورٌ بِفِعْلِهَا فِيهِ إذَا اشْتَغَلَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، صَحَّ أَنَّ الْوَقْتَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي تَرْكِ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ إلَى التَّيَمُّمِ.
وَأَمَّا قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ «إنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي فِي الْوَقْتِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُعِيدُ بَعْدَ الْوَقْتِ» فَلَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِتِلْكَ الصَّلَاةِ، فَلَا مَعْنَى لِأَمْرِهِ بِهَا وَتَأْخِيرُ الْفَرْضِ الَّذِي عَلَيْهِ تَقْدِيمُهُ.
وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ حُبِسَ فِي مَوْضِعٍ قَذِرٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَاءٍ وَلَا تُرَابٍ نَظِيفٍ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: «لَا يُصَلِّي حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى الْمَاءِ إذَا كَانَ فِي الْمِصْرِ» وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيُّ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ: «يُصَلِّي وَيُعِيدُ».
وَالْحُجَّةُ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ قَوْله تَعَالَى: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} إلَى قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ» وَمَنْ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ وَلَا تَيَمُّمٍ فَقَدْ صَلَّى بِغَيْرِ طُهُورٍ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ صَلَاةً، فَلَا مَعْنَى لِأَمْرِنَا إيَّاهُ بِأَنْ يَفْعَلَ مَا لَيْسَ بِصَلَاةٍ لِأَجْلِ أَنَّ عَلَيْهِ فَرْضَ الصَّلَاةِ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: «إنَّهُ يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ ثُمَّ يُعِيدُ» فَلَمْ يُعْتَدَّ بِهِ وَأَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ صَلَاةً لَمَا كَانَ مَأْمُورًا بِالْإِعَادَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ صَلَّى بِالْإِيمَاءِ وَلَا يُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ؟ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَأْمُرُهُ إذَا كَانَ مَحْبُوسًا فِي بَيْتٍ نَظِيفٍ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُعِيدَ، وَوُجُوبُ الْإِعَادَةِ لَمْ يُسْقِطْ عَنْهُ فِعْلَهَا بِالتَّيَمُّمِ.
قِيلَ لَهُ: قَدْ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ «أَنَّهُ لَا يَتَيَمَّمُ وَلَا يُصَلِّي حَتَّى يَخْرُجَ» فَهَذَا مُسْتَمِرٌّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي وَيُعِيدُ، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا.
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ وَحْدَهُ، فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا فَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَة أَنَّ الصَّلَاةَ بِالتَّيَمُّمِ قَدْ تَكُونُ صَلَاةً صَحِيحَةً بِحَالٍ وَهُوَ حَالُ عَدَمِ الْمَاءِ أَوْ خَوْفِ الضَّرَرِ، فَلَمَّا كَانَ عَادِمًا لِلْمَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالِ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ؛ وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ كَالْمُسَافِرِ إذَا كَانَ الْمَاءُ مِنْهُ قَرِيبًا وَخَافَ السَّبُعَ أَوْ اللُّصُوصَ فَيَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ وَلَا يُعِيدُ، فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ الْقِيَاسَ وَأَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ وَفَرَّقَ بَيْنَ حَالِ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ لِأَنَّ الْمَاءَ مَوْجُودٌ فِي الْحَضَرِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْمَنْعُ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ وَفِعْلُ الْآدَمِيِّ فِي مِثْلِهِ لَا يُسْقِطُ الْفَرْضَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَنَعَهُ رِجْلٌ مُكْرِهًا مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ أَصْلًا أَوْ مِنْ فِعْلِهَا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَصَلَّى بِالْإِيمَاءِ أَنَّهُ يُعِيدُ؟ وَلَوْ كَانَ الْمَنْعُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِغْمَاءٍ وَنَحْوِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ، وَلَوْ كَانَ مَرِيضًا سَقَطَ عَنْهُ فِعْلُ الرُّكُوعِ إلَى الْإِيمَاءِ؛ فَاخْتَلَفَ حُكْمُ الْمَنْعِ إذَا كَانَ بِفِعْلِ اللَّهِ أَوْ بِفِعْلِ الْآدَمِيِّ.
فَكَذَلِكَ حَالُ الْحَضَرِ، لَمَّا كَانَتْ حَالَ وُجُودِ الْمَاءِ لَمْ يَسْقُطْ فَرْضُ اسْتِعْمَالِهِ بِمَنْعِ الْآدَمِيِّ مِنْهُ، فَأَمَرَهُ بِالتَّيَمُّمِ وَإِعَادَتِهَا بِالْمَاءِ؛ وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى لَمْ يَأْمُرْهُ بِفِعْلِهَا لِأَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهَا فَلَا مَعْنَى لِلْأَمْرِ بِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتَ تَأْمُرُ الْمُحْرِمَ الَّذِي لَا شَعْرَ عَلَى رَأْسِهِ وَأَرَادَ الْإِحْلَالَ أَنْ يُمِرَّ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ مُتَشَبِّهًا بِالْحَالِقِينَ وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ، فَهَلَّا أَمَرْت الْمَحْبُوسَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ وَالتُّرَابِ أَنْ يُصَلِّيَ مُتَشَبِّهًا بِالْمُصَلِّينَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُصَلِّيًا وَكَمَا تَأْمُرُ الْأَخْرَسَ بِتَحْرِيكِ لِسَانِهِ بِالتَّلْبِيَةِ اسْتِحْبَابًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُلَبِّيًا قِيلَ لَهُ: الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَفْعَالَ الْمَنَاسِكِ قَدْ يَنُوبُ عَنْهُ الْغَيْرُ فِيهَا فِي حَالٍ فَيَصِيرُ حُكْمُ فِعْلِهِ كَفِعْلِهِ، فَجَازَ أَنْ يَنُوبَ عَنْ الْحَلْقِ إمْرَارُ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْغَيْرُ عَنْهُ فَيُجْزِي، وَكَذَلِكَ تَلْبِيَةُ الْغَيْرِ قَدْ تَنُوبُ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي حَالِ الْإِغْمَاءِ، فَلِذَلِكَ اُسْتُحِبَّ لَهُ تَحْرِيكُ لِسَانِهِ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُلَبِّيًا إذَا كَانَ أَخْرَسَ.
وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا يَنُوبُ عَنْهُ فِيهَا غَيْرُهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ مَا لَيْسَ بِصَلَاةٍ مُتَشَبِّهًا بِالْمُصَلِّينَ فَيَصِيرُ هَذَا الْفِعْلُ وَتَرْكُهُ سَوَاءً لَا مَعْنَى لَهُ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْتَحِبَّهُ.
فَإِنْ احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ قِلَادَةِ عَائِشَةَ حِينَ ضَلَّتْ وَأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ لِطَلَبِ الْقِلَادَةِ صَلَّوْا بِغَيْرِ تَيَمُّمٍ وَلَا وُضُوءٍ وَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ فِعْلَهَا بِغَيْرِ وُضُوءٍ وَلَا تَيَمُّمٍ.
قِيلَ لَهُ: إنَّ آيَةَ التَّيَمُّمِ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ وَقْتَ مَا صَلَّوْا وَلَمْ يَكُنْ التَّيَمُّمُ وَاجِبًا، وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالْإِعَادَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنْ لَا إعَادَةَ عَلَى مَنْ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ وَلَا تَيَمُّمٍ إذَا لَمْ يَجِدْهُمَا؛ فَلَمَّا قَالَ مُخَالِفُونَا «إنَّهُ يُعِيدُ» عَلِمْنَا أَنَّ حُكْمَ مَنْ ذُكِرَ مُخَالِفٌ لِأُولَئِكَ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ أُولَئِكَ كَانُوا وَاجِدِينَ لِلتُّرَابِ غَيْرَ وَاجِدِينَ لِلْمَاءِ، وَأَنْتَ لَا تَقُولُ ذَلِكَ فِيمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهِمْ.
وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا «جَائِزٌ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لِمَنْ لَا يَجِدُ الْمَاءَ، وَيُصَلِّي بِهِ الْفَرْضَ إذَا دَخَلَ الْوَقْتُ».
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَالشَّافِعِيُّ: «لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ دُخُولِهِ».
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} فَأَمَرَ بِالتَّيَمُّمِ بَعْدَ الْحَدَثِ إذَا عُدِمَ الْمَاءُ وَلَمْ يُفَرِّقْ فِيهِ بَيْنَ حَالِهِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ.
وَأَيْضًا قَالَ: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} وَقَدْ دَلَّلْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّ مَعْنَاهُ: إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ التَّيَمُّمَ وَأَبَاحَهُ فِي الْحَالِ الَّتِي أَمَرَ فِيهَا بِالْوُضُوءِ لَوْ كَانَ وَاجِدًا لِلْمَاءِ.
وَأَيْضًا لِمَا قَالَ تَعَالَى: {أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وَأَمَرَ بِتَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ لَهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَكَانَتْ الطَّهَارَةُ شَيْئَيْنِ: الْمَاءُ عِنْدَ وُجُودِهِ وَالتُّرَابُ عِنْدَ عَدَمِهِ، اقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَ تَقْدِيمِ التَّيَمُّمِ عَلَى الْوَقْتِ لِيُصَلِّيَ فِي أَوَّلِهِ عَلَى شَرْطِ الْآيَةِ؛ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ» وَقَوْلُهُ لِأَبِي ذَرٍّ: «التُّرَابُ كَافِيك وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ» وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُ قَبْلَ الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا عَلَّقَ جَوَازَهُ بِعَدَمِ الْمَاءِ لَا بِالْوَقْتِ.
فَإِنْ قِيلَ عَلَى اسْتِدْلَالِنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ}: إنَّ ذَلِكَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ} وَهُوَ مُضْمَرٌ فِيهِ، فَكَانَ تَقْدِيرُهُ: إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ وَجَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ وَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ.
قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ قَوْلَهُ: {إذَا قُمْتُمْ} مَعْنَاهُ: إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ؛ فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُكْتَفِيَةٌ بِنَفْسِهَا فِي إيجَابِ الْوُضُوءِ لِلْحَدَثِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ حُكْمَ عَادِمِ الْمَاءِ فَقَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إلَى قَوْلِهِ: {فَتَيَمَّمُوا} وَهَذِهِ أَيْضًا جُمْلَةٌ مُفِيدَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا غَيْرُ مُفْتَقِرَةٍ إلَى تَضْمِينِهَا بِغَيْرِهَا، وَمَا كَانَ هَذَا وَصْفُهُ مِنْ الْكَلَامِ فَفِي تَضْمِينِهِ بِغَيْرِهِ تَخْصِيصٌ لَهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ إلَّا بِدَلَالَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ الْمَجِيءِ مِنْ الْغَائِطِ فِي إبَاحَةِ التَّيَمُّمِ مُقَرًّا عَلَى بَابِهِ وَأَنْ لَا يُضْمَنَ بِغَيْرِهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ حُكْمَ كُلِّ جَوَابٍ عُلِّقَ بِشَرْطٍ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَا يَلِيهِ وَلَا يَرْجِعَ إلَى مَا تَقَدَّمَ إلَّا بِدَلَالَةٍ، وَاَلَّذِي يَلِي ذَلِكَ هُوَ شَرْطُ الْمَجِيءِ مِنْ الْغَائِطِ.
وَأَيْضًا كَمَا جَازَ الْوُضُوءُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ التَّيَمُّمُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَهَا حَدَثٌ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمُسْتَحَاضَةُ لَا تُصَلِّي بِوُضُوءٍ فَعَلَتْهُ قَبْلَ الْوَقْتِ.
قِيلَ لَهُ: يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَنَا لِأَنَّهَا لَوْ تَوَضَّأَتْ قَبْلَ الزَّوَالِ كَانَ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ بِهِ إلَى خُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ، وَأَمَّا إذَا تَوَضَّأَتْ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ فَإِنَّهَا لَا تُصَلِّي بِهِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ لِلسَّيَلَانِ الْمَوْجُودِ بَعْدَ الطَّهَارَةِ وَالْوَقْتُ كَانَ رُخْصَةً لَهَا فِي فِعْلِ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ، فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الرُّخْصَةُ بِخُرُوجِهِ وَجَبَ الْوُضُوءُ لِلْحَدَثِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَاخْتُلِفَ فِي فِعْلِ صَلَاتَيْ فَرْضٍ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ، فَقِيلَ: «يُصَلِّي بِتَيَمُّمِهِ مَا شَاءَ مِنْ الصَّلَوَاتِ مَا لَمْ يُحْدِثْ أَوْ يَجِدْ الْمَاءَ» وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ إبْرَاهِيمَ وَحَمَّادٍ وَالْحَسَنِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: «لَا يُصَلِّي صَلَاتَيْ فَرْضٍ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ، وَلَا يُصَلِّي الْفَرْضَ بِتَيَمُّمِ النَّافِلَةِ، وَيُصَلِّي النَّافِلَةَ بَعْدَ الْفَرْضِ بِتَيَمُّمِ الْفَرْضِ».
وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: «يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ».
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: «يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ صَلَاةِ فَرْضٍ وَيُصَلِّي الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ وَصَلَاةَ الْجِنَازَةِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ».
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التُّرَابُ كَافِيك وَلَوْ إلَى عَشْر حِجَجٍ فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَك» وَقَالَ: «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ» فَجَعَلَ التُّرَابَ طَهُورًا مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ وَلَمْ يُوَقِّتْهُ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ.
وَقَوْلُهُ: «وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ» عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْوَقْتِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ تَوْقِيتَ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ تَأْكِيدُ نَفْيِ الْغُفْرَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَذْكُرْ الْحَدَثَ وَهُوَ يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ، كَذَلِكَ فِعْلُ الصَّلَاةِ.
قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ بُطْلَانَهُ بِالْحَدَثِ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ وَأَكَّدَهُ بِبَقَائِهِ إلَى وُجُودِ الْمَاءِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَعْنَى الْمُبِيحَ لِلصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ بَدِيًّا كَانَ عَدَمُ الْمَاءِ وَهُوَ قَائِمٌ بَعْدَ فِعْلِ الصَّلَاةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْقَى تَيَمُّمُهُ، وَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ، إذَا كَانَ الْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدًا وَهُوَ عَدَمُ الْمَاءِ.
وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ بَدَلًا مِنْ الْغَسْلِ كَمَا أَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مِنْهُ، ثُمَّ جَازَ عِنْدَ الْجَمِيعِ فِعْلُ صَلَاتَيْنِ بِمَسْحٍ وَاحِدٍ، جَازَ فِعْلُهُمَا أَيْضًا بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ.
وَأَيْضًا فَلَا يَخْلُو الْمُتَيَمِّمُ بَعْدَ فِعْلِ صَلَاتِهِ مِنْ أَنْ تَكُونَ طَهَارَتُهُ بَاقِيَةً أَوْ زَائِلَةً، فَإِنْ كَانَتْ زَائِلَةً فَالْوَاجِبُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ بِهَا نَفْلًا لِأَنَّ النَّفَلَ وَالْفَرْضَ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي بَابِ الطَّهَارَةِ، وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فَجَائِزٌ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ فَرْضًا آخَرَ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ خُفِّفَ أَمْرُ النَّفْلِ عَنْ الْفَرْضِ حَتَّى جَازَ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلَا يَجُوزُ فِعْلُ الْفَرْضِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ.
قِيلَ لَهُ: إنَّهُمَا وَإِنْ اخْتَلَفَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَلَمْ يَخْتَلِفَا فِي أَنَّ شَرْطَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الطَّهَارَةُ، فَمِنْ حَيْثُ جَازَ النَّفَلُ بِالتَّيَمُّمِ الَّذِي أَدَّى بِهِ الْفَرْضَ فَوَاجِبٌ أَنْ يَجُوزَ فِعْلُ فَرْضٍ آخَرَ بِهِ، وَإِنَّمَا خُفِّفَ أَمْرُ النَّفْلِ فِي جَوَازِ فِعْلِهِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ لِأَنَّ فِعْلَ الْفَرْضِ جَائِزٌ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، وَأَمَّا الطَّهَارَةُ فَلَا يَخْتَلِفُ فِيهَا حُكْمُ النَّفْلِ وَالْفَرْضِ فِي الْأُصُولِ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ تَجْدِيدِ الطَّهَارَةِ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ إلَيْهَا، فَوَجَبَ بِحَقِّ الْعُمُومِ إيجَابُ تَجْدِيدِ التَّيَمُّمِ لِكُلِّ صَلَاةٍ.
قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إذَا قُمْتُمْ} لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فِي اللُّغَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَقْتَضِهِ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ؟ فَكَذَلِكَ فِي التَّيَمُّمِ.
وَعَلَى أَنَّهُ أَوْجَبَ التَّيَمُّمَ فِي الْحَالِ الَّتِي لَوْ كَانَ الْمَاءُ مَوْجُودًا لَكَانَ مَأْمُورًا بِاسْتِعْمَالِهِ، فَجَعَلَ التَّيَمُّمَ بَدَلًا مِنْهُ، فَإِنَّمَا يَجِبُ التَّيَمُّمُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْأَصْلُ، فَأَمَّا حَالٌ أُخْرَى غَيْرُ هَذِهِ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ إيجَابِهِ فِيهَا، فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَمْ يَلْزَمْهُ تَجْدِيدُ الطَّهَارَةِ بِهِ لِلصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَمَا صَلَّى بِهَا الصَّلَاةَ الْأُولَى كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ التَّيَمُّمِ.
فَإِنْ قِيلَ: التَّيَمُّمُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، فَلَيْسَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الَّذِي يَرْفَعُهُ؛ فَلَمَّا كَانَ الْحَدَثُ بَاقِيًا مَعَ التَّيَمُّمِ وَجَبَ عَلَيْهِ تَجْدِيدُهُ.
قِيلَ لَهُ: لَيْسَ بَقَاءُ الْحَدَثِ عِلَّةً لِإِيجَابِ تَكْرَارِ التَّيَمُّمِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ عَلَيْهِ تَكْرَارُهُ أَبَدًا قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَفْعَلَ الصَّلَاةَ الْأُولَى بِالتَّيَمُّمِ مَعَ بَقَاءِ الْحَدَثِ كَانَتْ الثَّانِيَةُ مِثْلَهَا إذَا كَانَ التَّيَمُّمُ مَفْعُولًا لِأَجْلِ ذَلِكَ الْحَدَثِ بِعَيْنِهِ الَّذِي يُرِيدُ إيجَابَ التَّيَمُّمِ مِنْ أَجْلِهِ، وَقَدْ وَقَعَ لَهُ مَرَّةً فَلَا يَجِبُ ثَانِيَةً.